بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله والصلاة
والسلام على رسول الله وآله
من
آداب الأُخُوَّة:
الاحترام
والحب والتناصح
الأُخُوة
تعني المساواة، فلا يُميِّز أحدٌ نفسَه على أخيه، والأُخُوة في الدِّين تعني
المساواة التي تصنعها رابطة الإيمان والتديُّن.
وقد أنعم
الله على المسلمين بأن جعلهم إِخْوَة في دينهم، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، وقال (صلى الله عليه وسلم) : « المُسْلِمُ
أَخُو المُسْلِمِ »([1])، ووصف
المؤمنين بالأُخُوَّة في الآية والحديث يفيد وقوع ذلك، ويفيد وجوب هذه الأخوة
بينهم، ويؤكد ذلك قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : « وَكُونُوا
عِبَاد اللَّه إِخْوَانًا »، فالأخوة واجبة، والأسباب الموصلة إلى الأخوة واجبة.
وقد
أمرنا الله تعالى بالتراحم، والأُخُوَّةُ وما يدخل تحتها من آداب، هي كلها من صور
التراحم المطلوبة بقوله (صلى الله عليه وسلم) : « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم
... » فالحال الطبيعي وجود التراحم بكل صوره، ولا يجوز أن تخلو حالة أي مسلم من
ذلك التراحم.
وكل
مسلم فالأخوة واجبة بينك وبينه، سواءاً كان صغيراً أو كبيراً، وسواءاً كان بينك
وبينه مصلحة أم لا.
ورَتَّبَ
الله سبحانه على أُخُوَّة الإسلام أحكاماً وواجبات؛ كما رتب على أُخُوة القرابة والرضاعة والإنسانية
أحكاماً وواجبات.
وجعل
الله الأُخُوَّة الإيمانية فوق أخوة الولادة والقرابة والرضاعة والإنسانية، وجعل
رابطة الإيمان والفكر والدين فوق كل رابطة، فبين سبحانه أن كلَّ أخوةٍ غيرَ أخوة
الدين تنهار وتسقط ولا يعود لها قيمة، في كثير من الجوانب؛ إذا تعارضت مع الإيمان
وأحكامه، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا
آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ
أَوْلِيَاءَ()
إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ، قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ
كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ
تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى
يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ
لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 23-24]، وقال تعالى: ﴿ لاَ
تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ
أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم
بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ
حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22].
وإذا
لم تتعارض أنواع الروابط والأخوة مع أخوة الدين فإن لها أحكامها التي شرعها الله،
فالله تعالى أثبت أخوة الولادة، ورتب عليها أحكاماً منها: أن يكون بعضهم لبعض
محارم، وأن لا تزاوج بينهم، وأن لهم ميراثاً، وحقاً في النفقة والصلة والتناصر
بالحق وغير ذلك، ورتب على أخوة الرضاعة بعض هذه الأحكام.
كما
لم يلغِ الله تعالى أخوة الإنسانية والعشيرة، لذلك نجد أنه يصف الأنبياء بأنهم
إخوانُ أقوامِهم رغم عدم إيمانِ أقوامِهم: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ
المُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ نُوحٌ أَلاَ
تَتَّقُونَ، إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ [الشعراء: 105-107]، وقال تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ
عَادٌ المُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ هُودٌ أَلاَ
تَتَّقُونَ، إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ [الشعراء: 123-125]، وجعل الله لأخوة الإنسانية
أحكاماً، كواجب دعوتهم وحسن معاملتهم، وإقرارهم في دولة الإسلام؛ إذا لم يظلموا أو
يعتدوا.
ـ
والإنسان يجد في العادة سروراً بلقاء الناس وبلقاء أقاربه، وقد جعل الله في قلب
المؤمن سروراً وحلاوة أكبر من ذلك؛ بالحب الناتج عن الأخوة التي تكون بين
المؤمنين، إذ جعل اللهُ الأخوةَ سبباً من أسباب ذوق حلاوة
الإيمان، حينما تكون هذه الأخوة لوجه الله، والباعثُ إليها تعظيم رابطة الإيمان،
قال (صلى الله عليه وسلم) : « لاَ يَجِدُ أَحَدٌ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ
الْمَرْءَ، لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ
أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ، بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ،
وَحَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا »().
ـ
وقد امتن الله علينا بهذه الأُخُوَّة التي قضاها بين المسلمين وألقاها في قلوبهم، فقال:
﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَاناً وَكُنتُمْ
عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103]، والذين
يخاطبهم كان كثير منهم تربطهم القرابة والعشيرة، ومع ذلك كانت العَداوة قائمة بينهم،
قبل أن يجمعهم الإيمان.
ـ وفي العادة فإن الصداقة والتعارف والتعامل والمصالح
المشتركة والإحسان بين الناس تصنع أُخُوةً، والله تعالى جعل بين المسلمين
رابطة وصداقة وأخوة واجبة، ولو لم يكن بينهم تعارف ومصالح دنيوية، فانتسابك
للإسلام جعل لك كل مسلم أخاً، وجعل أخوتك له وأخوته لك فوق أخوة القرابة والصداقة،
فيجب أن يترتب على هذه الأخوة آثارها المطلوبة، ولو كان أخوك بعيداً عنك، ولو كنت
لا تعرف عن أخيك شيئاً سوى أنك عرفت إسلامه.
ـ وقد
أمرنا الله بأحكام وأعمال إذا عملنا بها فإنها تحافظ على الأخوة والمحبة بين
المسلمين، وإذا نظرنا من جهة أخرى إلى هذه الأحكام نراها آثاراً طبيعية منطقية
تترتب على أخوة الإيمان.
والأحكام
والآثار التي تترتب على أخوة الإيمان كثيرة، منها: أن تُسلِّم على كل مسلم، قريباً
أو غريباً، وتبتسم في وجهه، ولو كنت لا تعرفه من قبل، وتزوره في الله، وتعوده إذا
مرض، وتحسن الظن به، وتدافع عنه في غيبته، وترد التهمة عنه ما لم تثبت، وتواليه وتناصره
وتنصره وتجاهد لنصرته، ولو كان أخوك في آخر الأرض، وتتبع جنازته إذا مات، وتشمته
إذا عطس، وتدعو له في ظهر الغيب، وتنصحه
إذا أخطأ، وتخاطبه بالكلام الحسن، وتحترمه ولا تحتقره، وتقابل إساءته بالإحسان،
وتكرمه وتؤثره على نفسك، ولا تؤذيه بقول أو فعل، ولا بسخرية أو غيبة أو تجسس أو
نبز أو لمز أو همز أو غمز()،
وغير ذلك مما تقتضيه الأخوة.
وإلى
تفصيل بعض حقوق الأخوة وآدابها وأحكامها وما تقتضيه.
مما تقتضيه الأخوة
الإسلامية
ـ
احترام المسلم للمسلم والتواضع له وعدم تحقيره:
أوجب
الله على المسلم أن يحترم المسلم ويُقدِّره، لأجل إسلامه وإيمانه بالله()
ووقوفه عند الحق، فعلى المسلم أن يقدِّر المسلم ويتواضع له، ﴿ أذلة على المؤمنين ﴾
[المائدة: 54].
ولا
يجوز لمسلم أن يحتقر إخوانه في الإيمان، ولا أن يعتدي على أحد منهم بأي لون من
ألوان الاعتداء إلا ما استحقه بحكم الله، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «
المُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِم، لا يَظلِمُه، ولا يَحْقِرُهُ، ولا يَخْذُلُهُ،
التَّقْوَى هَاهُنا ـ ويُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مرَّاتٍ ـ بِحسْبِ امْرِيءٍ
مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِر أَخاهُ المسلم، كُلَّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ
حرامٌ دمُهُ ومالُهُ وعِرْضُهُ »([6]).
فكما
نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الاعتداء الحسي على حياة المسلم أو ماله أو
سمعته، كذلك نهى عن الاعتداء القلبي والنفسي باحتقاره في نفسك، فلا يكفي أن لا
تؤذيه، بل لا بد أن يكون له في قلبك حرمة ومكانة وتقدير، لذلك أشار في الحديث إلى
أن التقوى في الصدر، لتنتبه إلى أن صدرك وقلبك يجب أن يكون فيه احترام لكل مسلم.
وقوله:
« بحسب امريء من الشر » يدل على أن إثم تحقير المسلم عظيم وخطير، فلو لم يكن عند
المسلم إلا هذا الذنب لكفاه جُرماً وسوءاً.
وهذا
التحقير سواء كان على مستوى الأفراد أو الجماعات من المسلمين، فمن يحترم الأفراد
لكنه يحتقر العشائر المسلمة أو الجماعات الإسلامية أو المذاهب الإسلامية المقبولة؛
فقد وقع في تحقير المئات أو الألوف أو الملايين.
ـ
واحترام المسلم وعدم تحقيره لا يمنع من النصح والنقد البناء، مع الأدب والاحترام
والمحبة، وتقدير اختلاف الاجتهادات، وعدم الوقوع في الغيبة، أو الافتراء عليهم، أو
الاتهام بغير علم وتثبت، أو نقل الحديث الذي لم يتأكد منه، أو الذم بقصد التعالي
عليهم أو التصغير والتحقير لهم.
وإذا
أخطأ المسلم أو أذنب؛ فذلك لا يقتضي تحقير المسلم، بل تبقى للمسلم حرمته، مع وجوب
التوبة عليه، ومع واجب النصح له علينا، ومع عدم التغاضي عن العقوبة الشرعية التي
أوجبها الله عليه.
واحترامه
لا يعني أن نصحح أخطاءه، أو ندافع عن ذنوبه، أو أن نقبلها منه في حين لا نقبلها من
غيره.
ـ
الحب للمسلم:
إن الأصل الذي تنبني عليه الحياة وكل علاقاتها هو الإيمان،
والحب من ذلك، فمن يوافقك في العقيدة والإيمان ينبغي أن تحبه، لأنه يحمل الثقافة
التي تحملها، ومن خالفك وناقضك في فكرك وإيمانك ـ بحيث تراه على الباطل ويراك على
الباطل ـ فطبيعي أن تكرهه().
ويبقى الإيمان مجرد دعوى إذا لم يظهر أثره في حب من يؤمن
بمثل ما آمنت به، وفي بُغْضِ مَن كفر بربك وبما تؤمن به، قال الله تعالى: ﴿ لا تجد
قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو
أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ﴾،
وقال النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك بقوله: « لا تدخلون الجنة
حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا »([8])،
فبين أن الإيمان لا يكون موجوداً ما لم تظهر ثمرته في حب المؤمنين، كما بينت الآية
أن الإيمان لا يكون موجوداً إذا لم تظهر ثمرته في بغض الكافرين.
ـ
الحب عاطفة وميل في النفس إلى المحبوب، فمن وجد في نفسه حقداً أو كراهية أو قطيعة
تجاه المسلمين فقد انتقص من قيمة الإيمان الذي يجمع بينه وبينهم، ومهما كان عند
المؤمن من سبب يوجد الكراهية، فإن الإيمان وهو السبب الموجب للحب أكبرُ منه، لذلك
إذا كره المسلم من المسلم عملاً أو سلوكاً؛ فإنه لا يستوجب الكراهية المطلقة في
نفسه لأخيه.
ـ
وقد نهانا النبي (صلى الله عليه وسلم) عن كل ما يوجب الكراهية بين المسلمين، من
اعتداء أو إساءة أو إيذاء أو سباب أو فجور في الخصومة أو حقد أو حسد أو تباغض أو
قطيعة أو تدابر أو هجران أو تشاجر أو قتال أو فرقة أو أي أمر يسبب الفرقة.
كما
أمرنا النبي (صلى الله عليه وسلم) بكل ما يزيد الألفة والمحبة، كإفشاء السلام والتزاور
وعيادة المريض والصحبة الحسنة وحسن العشرة والتألُّف والتآلُف والكلمة الطيبة
والتناصح المتبادل والتعاون على الخير والوحدة.
والحقوق
التي أوجبها الله للمسلم على المسلم هي مطلوبة لذاتها، وهي مطلوبة لأنها مما
تقتضيه المحبة، فمن أحب أخاه قام بهذه الأعمال، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : « حَقُّ
الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ » قِيلَ مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ
« إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ
فَانْصَحْ لَهُ وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ
وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ ».
ـ
وإذا أُدِّيت هذه الحقوق فهي أيضاً أسباب في المحبة وزيادتها بين المسلمين، فهي
أعمال تزيد المحبة والألفة وتحفظ المودة وتمتن العلاقات.
ووجود
الحب والقيام بهذه الأعمال التي يقتضيها الحب؛ هو الذي يصنع الوحدة في المجتمع
المسلم، فلا يمكن أن تجتمع القلوب أو يحصل التعاون مع الكراهية.
ـ
وحينما يكون الحب بين المسلمين صادقاً خالصاً لله، ناتجاً عن الإيمان ودوافعه،
رغبة في مصالح الآخرة لا في مصالح الدنيا؛ فإن الله تعالى يجعل لأصحاب هذا الحب
سعادة وحلاوة، قَالَ النَّبِىُّ r : « لاَ يَجِدُ أَحَدٌ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ
الْمَرْءَ، لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ
أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ، بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ
اللَّهُ، وَحَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا
سِوَاهُمَا »().
وبيان
النبي (صلى الله عليه وسلم) أن المسلم يجد بذلك حلاوة الإيمان؛ يدل على أن الحب في
الله والصحبة الصالحة تهوِّن على المسلم القيام بطاعة الله، وتزيد جمال الإيمان في
نفس المؤمن.
وكما يدل هذا الحديث على
أن المسلم لا بد أن يكون مخلصاً لله في حبه، فكذلك يؤكد ذلك قول النبي (صلى الله
عليه وسلم) حينما بين أن « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ
ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ » فذكر منهم: « وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ
اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ »().
ومن
علامة الصدق والإخلاص لله في المحبة بين المسلمين؛ أن لا ينقص هذا الحب إذا لم ينل
من أخيه مصلحة أو عطية أو هدية أو زيارة، كما لا يتوقف وجود هذا الحب على تحقق
مصالح وهدايا وزيارات، وإن كان قد يزيد الحب عند وجود هذه الأمور، فذلك أمر فطري
وشرعي.
ـ
ولما كانت المحبة في الله أمراً عظيماً فثوابها ومنزلتها عند الله عظيمة، قال رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) : « إن اللَّه تعالى يقولُ يَوْمَ الْقِيَامةِ : أَيْنَ
المُتَحَابُّونَ بِجَلالِي ؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ في ظِلِّي يَومَ لا ظِلَّ
إِلاَّ ظِلِّي »([11])،
وقال (صلى الله عليه وسلم) : « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: المُتَحَابُّونَ في
جَلالي ، لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ
»([12]).
وقال
رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم): « قالَ اللَّهُ تعالى وَجَبَتْ مَحبَّتِي
لِلْمُتَحَابِّينَ فيَّ، والمُتَجالِسِينَ فيَّ، وَالمُتَزَاوِرِينَ فيَّ،
وَالمُتَباذِلِينَ فيَّ »([13]).
ـ
ولما كانت المحبة لها أثر كبير في نفس المحبوب، وسبب في التعاون معه والتناصر؛
أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن نخبر من نحبه بالله بأننا نحبه، لتتفاعل
المحبة وتنتج آثارها، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : « إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ
أَخَاهُ، فَلْيُخْبِرْه أَنَّهُ يُحِبُّهُ »([14])،
وعن أَنسٍ t أَنَّ رَجُلاً كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)،
فَمَرَّ بِهِ، فَقال: يا رسول اللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ هَذا، فقال له النبيُّ (صلى
الله عليه وسلم): « أَأَعْلمتَهُ ؟ » قَالَ: لا، قَالَ: « أَعْلِمْهُ »،
فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ في اللَّه، فقالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي
أَحْببْتَنِي لَهُ([15]).
وكذلك
كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يخبر بمحبته لأصحابه ، فعن مُعَاذ بن جبل t أَنَّ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) أَخَذَ بِيَدِهِ، وقال: «
يَا مُعَاذُ، واللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ، ثُمَّ أُوصِيكَ يَا مُعاذُ؛ لا تَدَعنَّ
في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ تَقُولُ: اللَّهُم أَعِنِّي على ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وحُسنِ
عِبَادتِك »([16]).
ـ
التناصح، ببذل النصيحة وقبولها:
من
أعظم حقوق الأخوة ومقتضيات المحبة: بذل النصيحة وتقديمها لأخيك، فإن الذي يرى
العيب عليك ولا ينبهك إليه؛ يكون غاشاً لك، إذ يبقيك على حال يضرك في الآخرة،
ويبقيك على حال يرى الناس معه عيبك فتتضرر في الدنيا.
وواجب
المسلم العاقل إذا نصحه أخوه؛ أن ينظر في نصيحة أخيه، فيحرص على الأخذ بها؛ إن
وجدها صحيحة سليمة نافعة، تستند إلى دليل وبرهان ومنطق سليم، وإن وجدها غير ذلك؛
فإنه يشكر أخاه على حرصه عليه، ويرجع إليه بنصيحة يبين له موضع خطئه في نصيحته،
ليسدد نظره ويصلح رأيه.
ـ
والنصيحة واجبة على لكل مسلم، فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يبايع أصحابه
عليه، فعن جرير بن عبد الله t
قال: « بايعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على إقام الصلاة
وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم »([17]).
ـ
والنصيحة حق لأخيك المسلم عليك، فقد ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) في حَقِّ الْمُسْلِمِ
عَلَى الْمُسْلِمِ: « وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ »().
ـ
والنصيحة تدخل في قول الله تعالى في وصف نبيه (صلى الله عليه وسلم) : ﴿ حريص عليكم
﴾ ، وواجب كل مسلم ـ عالمٍ أو غيره ـ أن يكون حريصاً على إخوانه وإصلاحهم
وتسديدهم.
والمسلم
إذا رأى آخاه قد انحرف عن الطريق قليلاً، فواجبه أن يحرص عليه ويصلحه، لا أن
ينبذه، كأعضاء الجسد إذا أصيب واحد منها سَهِر له جميع الجسد لإصلاحه وطِبِّه، ولم
يقطعه ويتخلص منه فينقص جسده، وهذا الذي يتعامل به المسلم مع أخيه؛ هو الذي ينبغي
أن تتعامل به الجماعات الإسلامية فيما بينها.
ـ
وقد جعل النبي (صلى الله عليه وسلم) للنصيحة أهمية عظيمة، فقال (صلى
الله عليه وسلم): « الدين النصيحة »، قلنا: لمن ؟ قال: « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة
المسلمين وعامتهم »([19]).
ومعنى
الحديث أن النصيحة كما كانت من الله U ورسوله (صلى الله عليه وسلم) وكتابه، فأعطاك الحق ولم يغشك، فكذلك
يكون النصح من كل مسلم حاكم أو عالم أو عامي، فلا يجوز لمسلم أن يتكبر عن سماع نصح
إخوانه، بل واجبه أن يستمع لما يخلص له به غيره من القول لينفعه، ويفتح صدره
ويتقبل نصيحتهم، حتى وإن أخطأوا يحاول أن يعيد النظر فيما يراه غيره خطأً، عسى أن
ينتبه إلى أمر كان في غفلة عنه([20]).
ـ
والنصيحة سبب في بقاء الدين، وهذا من معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : « الدين
النصيحة »، أي بقاء الدين ببقاء النصيحة، وذلك أن المسلمين إذا رأوا منكراً وعيباً
فلم ينصحوا صاحبه؛ فإنه يكون قد تراجع عن الحق قليلاً، وشيئاً فشيئاً وخطأً فخطأً
يزداد الانحراف حتى يضعف الدين عند المسلم وينقص زمناً بعد زمناً وجيلاً بعد جيل،
أما إذا وجدت النصيحة من المسلمين لأخيهم، فإنها تكون سبباً في وجوعه إلى كمال
دينه ومعالجة نقصه، فإذا عمَّت النصيحة جميع المسلمين فإنها تكون سبباً في بقاء
الدين ودوامه فيهم على أحسن حال وأكمل وجه.
ـ
والنصيحة سبب في وحدة المسلمين وتكاملهم، ذلك أن كل فرد وجماعة من المسلمين لا
يَخْلُوْنَ من أخطاء وعيوب، فإنَّ حالَنا كما
وصف النبي (صلى الله عليه وسلم) : « خير وفيه دخن »، فلا نخلو من تقصير أو خطأٍ
يحتاج إلى نصيحة وتسديد، فإذا فعلنا ذلك ظهر أثر التناصح في الإصلاح، فكل جماعة
ترد أختها إلى الحق، وتنبهها إلى ما عندها من تقصير ونقص وعيب، وكذلك كل فرد يعيد
إخوانه إلى الصواب والحق، فحينما ترى الجماعة والأفراد أثر إخوانهم في إصلاحهم
يحبونهم، وتنتفي الفرقة بينهم، ويصير الجميع في بوتقة الإسلام الواحدة، تحت راية الإسلام
وجماعته الواحدة.
وواجب
الوحدة بين المسلمين يوجب على كل فرد أو اتجاه أو جهة أو جماعة أو مجتهد أن ينصحوا
إخوانهم من أصحاب الاتجاهات الأخرى، وأن يتقبلوا نصح الآخرين، ولا يكون وجود خطإ
أو انحراف عند جماعة سبباً في نبذها كلها، ونبذ الجانب الذي أصابت فيه وحَمَلْتْه
من الدين، وإنما ننصحها ونحاول تصحيح مسارها
لتحمل الجانب الذي تبنته حملاً صحيحاً موافقاً للأصول من الكتاب والسنة الصحيحة.
وما
ذكرنا إنما هو في الجماعات التي تدخل ضمن دائرة الإسلام وترجع إلى الكتاب والسنة،
أما الجماعات التي خرجت عن ملة الإسلام، فهذه إنما يتعامل معها المسلم على سبيل
الدعوة لإخراجها من الكفر إلى الإيمان، مع التنبيه إلى أننا لا يجوز لنا أن
نَعُدَّ جماعةً خارجةً عن الإسلام إلا بيقين وبرهان واضح، لا بالشك والدعوى
والاتهام، كما إذا صَدَر كفرٌ صريح من بعض أفرادها فلا يجوز التعميم، إلا إذا ثبت
أنهم جميعاً يرضَون بهذا الكفر.
() أخرجه البخاري، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t، وفي رواية عند البخاري ومسلم: « ثلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ
حَلاَوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ ... ».
([10]) أخرجه البخاري رقم 660 عن أبي هريرة t،
وتمام الحديث: « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ
إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ،
وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ
اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ
مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ،
أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ
اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ».
([12]) رواه الترمذي عن مُعَاذ t ، وقال : حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
([13]) حديث صحيح رواه مالِكٌ في المُوطَّإِ بإِسنادِهِ الصَّحيحِ عن
معاذ t .
([14]) رواه أبو داود والترمذي وقال : حديثٌ حسن، عن أبي كَريمةَ
المِقْدَادِ بن مَعْدِ يكَرب t.
([15]) رواه أبو داود بإِسنادٍ صحيح .
([16]) حديث صحيحٌ ، رواه أبو داود والنسائي.
([17]) رواه البخاري رقم 57 ومسلم رقم 56.
([19]) رواه مسلم رقم 55 عن تميم الداري t.
([20]) وفهم بعض العلماء الحديث بمعنى الإخلاص في المعاملة مع المذكورين
في النص، فأنت تنصح لله بأن تخلص له ولدينه فلا تغش في عبوديتك لله، وتخلص لرسوله r فلا تغش في متابعته وطاعته وحبه، وتخلص لكتابه فلا تنسب إليه
باطلاً ولا تحرِّف ولا تفهمه بهواك وتجعل هواك حاكماً عليه، وتخلص لأئمة المسلمين
بمتابعتهم في الحق ونصيحتهم عند الخطأ، وتخلص للعامة فتنصحهم وتعينهم على
الاستقامة وعدم الانحراف. وفي اللغة: النصح: الإخلاص، فالنصح ضد الغش، وضد الشوائب،
فحينما يكون الأمر خالصاً صافياً يكون نصحاً.